إن التربية تتم من خلال الموجهات الأساسية للفرد خلال مراحل
حياته, وهذه الموجهات تمثل محاضن التنشئة المختلفة من أسرة ومسجد ومدرسة
ووسائل اتصال, وأعظم هذه الوسائل أثرا الأسرة؛ لتفردها بالتأثير في فترة
الطفولة .
إن الأسرة هي نواة المجتمع ووحدته البنائية, فيها يشب الطفل ويترعرع, وتتشكل اتجاهاته وآراؤه ويتم البناء الأساسي لشخصيته.
فالبيت المسلم هو المجتمع الصغير الذي تنشأ فيه روابط الأبوة
والبنوة والقيم والأخلاق والألفة والمودة, والاستقرار النفسي والعاطفي,
وكلها معان مستمدة من دين الإسلام, قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم
من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون} [الروم: 21].
لذا أولى الإسلام عناية كبيرة لتكوين البيت المسلم, فحض على
اختيار ذات الدين والخلق, ومعاملتها بالمعروف, مع جعل القوامة بيد الرجل
ليعم الأمن والاستقرار أرجاء البيت, كما أكد الإسلام على دور الأسرة
المحوري في عملية التربية, قال رسول الله: "ما من مولود إلا ويولد على
الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"[1].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "مما يحتاج إليه الطفل غاية
الاحتياج العناية بأمر خُلقه , فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره,
ولهذا نجد الناس منحرفة أخلاقهم, وذلك من قبل التربية التي نشأوا عليها",
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: "الصبي أمانة عند والديه, وقلبه
الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة, وهو قابل لكل نقش, ومائل
إلى كل ما يمال إليه, فإن عُود الخير وعلمه نشأ عليه, وسعد في الدنيا
والآخرة, وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب, وإن عُود الشر وأهمل
إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والولي له, وقد قال
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس
والحجارة}".
ولكن كيف تتوفر العناية اللازمة للطفل إذا هجرت الأم البيت, وكان الأب في عمله معظم الوقت؟
إن الأبناء أمانة في أعناق آبائهم فهل رعوا هذه الأمانة حق
رعايتها؟ ألا فليتق الله أناس ضيعوا هذه الرعية التى سوف يسألون عنها, فعن
ابن عمر -رضي الله عنه-: قال قال رسول الله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته, فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته, والمرأة راعية في بيت زوجها
وهي مسؤولة عن رعيتها, والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته,
والولد راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته, فكلكم راع ومسؤول عن
رعيته"[2], وعنه أنه قال: "إن الله سائل كل راع عن ما استرعاه أحفظ ذلك أم
ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته"[3].
إن الأبناء يتمثلون بالآباء ويحملون عاداتهم السلوكية, فإذا
كان الأب مدخنا مثلا فإن انتقال هذه الظاهرة إلى الطفل أمر وارد, وقديما
قيل:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
إن من المواقف التي لا زلت أذكرها, وأقف أمامها متأملا, أني
زرت أحد الأصدقاء في بيته منذ مدة, وكان بصحبتي أحد الإخوة المدخنين -سامحه
الله- فما كاد الجمع يلتئم حتى أخرج هذا الأخ سيجارته وأشعلها -كعادة
المدخنين في عدم مراعاة شعور غيرهم- فإذا بطفل لا يتجاوز عمره ثلاث سنين
يهمس في أذن أبيه, سائلاً باستغراب: لماذا يحرق نفسه؟
لقد تربى هذا الطفل في بيت يعمر الأيمان أرجاءه, ولا يعرف
التدخين إليه سبيلا, فارتسمت في ذهنه صورة مؤداها أن الدخان والنار يعنيان
الحريق, فأسقط هذه الصورة الذهنية -محقًا- على أول مدخن رآه !!.
ولكي يبقى للأسرة دورها التربوي الفعال فيجب ألا تشرك في هذه
المهمة النبيلة أطرافا أخرى غير مأمونة التأثير كوسائل الإعلام, ذلك أن
كثيرا من الأسر أسلمت مهمة التربية للفضائيات والخادمات لأسباب عديدة منها :
اشتغال الأب والأم معا خارج البيت, والأمية التربوية التي تعاني منها أسر
كثيرة, والتأثر بالنمط الغربي في بناء الاسرة مما نتج عنه اتساع الهوة بين
الأبناء والآباء, والتفكك الأسري الذي يج