لما
كانت العين رائدا والقلب باعثا وطالبا وهذه لها لذة الرؤية وهذا له لذة
الظفر كانا في الهوى شريكي عنان ولما وقعا في العناء واشتركا في البلاء
أقبل كل منهما يلوم صاحبه ويعاتبه. فقال القلب للعين أنت التي سقتني إلى
موارد الهلكات وأوقعتني في الحسرات بمتابعتك اللحظات ونزهت طرفك في تلك
الرياض وطلبت الشفاء من الحدق المراض وخالفت قول أحكم الحاكمين {قل
للمؤمنين وقول رسوله "النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركه
من خوف الله عز وجل أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه" رواه الإمام
أحمد حدثنا هشيم حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة عن
حذيفة. وقال عمر بن شبة حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا عن بسة بن
عبد الرحمن القرشي حدثنا أبو الحسن المدني حدثنا علي بن أبي طالب رضي الله
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نظر الرجل في محاسن المرأة سهم
مسموم من سهام إبليس مسموم فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسره "
فمن الملوم سوى من رمى صاحبه بالسهم المسموم أو ما علمت أنه ليس شيء أضر
على الإنسان من العين واللسان فما عطب أكثر من عطب إلا بهما وما هلك أكثر
من هلك إلا بسببهما فلله كم من مورد هلكة أورداه ومصدر ردى عنه أصدراه فمن
أحب أن يحيا سعيدا أو يعيش حميدا فليغض من عنان طرفه ولسانه ليسلم من الضرر
فإنه كامن في فضول الكلام وفضول النظر وقد صرح الصادق المصدوق بأن العينين
تزنيان وهما أصل زنى الفرج فإنهما له رائدان وإليه داعيان وقد سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمر السائل أن يصرف بصره فأرشده
إلى ما ينفعه ويدفع عنه ضرره وقال لابن عمه علي رضي الله عنه محذرا له مما
يوقع في الفتنة ويورث الحسرة "لا تتبع النظرة النظرة" أوما سمعت قول
العقلاء من سرح ناظره أتعب خاطره ومن كثرت لحظاته دامت حسراته وضاعت عليه
أوقاته وفاضت عبراته وقول الناظم نظر العيون إلى العيون هو الذي … جعل
الهلاك إلى الفؤاد سبيلا
ما زالت اللحظات تغزو قلبه … حتى تشحط فيهن قتيلا
وقال آخر
تمتعتما يا مقلتي بنظرة … وأوردتما قلبي أمر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه … من الظلم سعى اثنين في قتل واحد
قالت
العين ظلمتني أولا وآخرا وبؤت بإثمي باطنا وظاهرا وما أنا إلا رسولك
الداعي إليك ورائدك الدال عليك وإذا بعثت برائد نحو الذي … تهوى وتعتبه
ظلمت الرائدا
فأنت الملك المطاع ونحن الجنود والأتباع أركبتني في حاجتك
خيل البريد ثم أقبلت علي بالتهديد والوعيد فلو أمرتني أن أغلق علي بابي
وأرخي علي حجابي لسمعت وأطعت ولما رعيت في الحمى ورتعت أرسلتني لصيد قد
نصيت لك حبائله وأشراكه واستدارت حولك فخاخه وشباكه فغدوت أسيرا بعد أن كنت
أميرا وأصبحت مملوكا بعد أن كنت مليكا هذا وقد حكم لي عليك سيد الأنام
وأعدل الحكام حيث يقول "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا
فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" وقال أبو هريرة رضي الله عنه
القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت
جنوده ولو أنعمت النظر لعلمت أن فساد رعيتك بفسادك وصلاحها ورشدها برشادك
ولكنك هلكت وأهلكت رعيتك وحملت على العين الضعيفة خطيئتك وأصل بليتك أنه
خلا منك حب الله وحب ذكره وكلامه وأسمائه وصفاته وأقبلت على غيره وأعرضت
عنه وتعوضت بحب من سواه والرغبة فيه منه هذا وقد سمعت ما قص عليك من إنكاره
سبحانه على بني إسرائيل استبدالهم طعاما بطعام أدنى منه فذمهم على ذلك
ونعاه عليهم وقال {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ} فكيف بمن استبدل بمحبة خالقه وفاطره ووليه ومالك أمره الذي لا صلاح
له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور ولا فرحة ولا نجاة إلا بأن يوحده في الحب
ويكون أحب إليه مما سواه فانظر بالله بمن استبدلت وبمحبة من تعوضت رضيت
لنفسك بالحبس في الحش وقلوب محبيه تجول حول العرش فلو أقبلت عليه وأعرضت
عمن سواه لرأيت العجائب ولأمنت من المتالف والمعاطب أوما علمت أنه خص
بالفوز والنعيم من أتاه بقلب سليم أي سليم مما سواه ليس فيه غير حبه واتباع
رضاه قالت وبين ذنبي وذنبك عند الناس كما بين عماي وعماك في القياس وقد
قال من بيده أزمة الأمور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في
الصدور فلما سمعت الكبد تحاورهما الكلام وتناولهما الخصام قالت أنتما على
هلاكي تساعدتما وعلى قتلي تعاونتما ولقد أنصف من حكى مناظرتكما وعلى لساني
متظلما منكما يقول:
طرفي لقلبي هجت لي سقما … والعين تزعم أن القلب أنكاها
والجسم يشهد أن العين كاذبة … وهي التي هيجت للقلب بلواها
لولا العيون وما يجنين من سقم … ما كنت مطرحا من بعض قتلاها
فقالت الكبد المظلومة اتئدا … قطعتماني وما راقبتما الله
وقال آخر
يقول قلبي لطرفي أن بكى جزعا … تبكي وأنت الذي حملتني الوجعا
فقال طرفي له فيما يعاتبه … بل أنت حملتني الآمال والطمعا
حتى إذا ما خلا كل بصاحبه … كلاهما بطويل السقم قد قنعا
نادتهما كبدي لا تبعدا فلقد … قطعتماني بما لاقيتما قطعا
وقال آخر
عاتبت قلبي لما … رأيت جسمي نحيلا
فألزم القلب طرفي … وقال كنت الرسولا
فقال طرفي لقلبي … بل كنت أنت الدليلا
فقلت كفا جميعا … تركتماني قتيلا
ثم
قالت أنا أتولى الحكم بينكما أنتما في البلية شريكا عنان كما أنكما في
اللذة والمسرة فرسا رهان فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي ولهذا قال فيكما
القائل ولما سلوت الحب بشر ناظري … لقلبي فقال القلب لي ولك الهنا
تخلصت من إحياء ليلك ساهرا … وخلصتني من لوعة الهجر والضنا
كلانا مهنا بالبقاء فإن تعد … فلا أنت يبقيك الغرام ولا أنا
وإن
لم تدرككما عناية مقلب القلوب والأبصار وإلا فما لك من قرة ولا للقلب من
قرار قال الشاعر فوالله ما أدري أنفسي ألومها … على الحب أم عيني المشومة
أم قلبي
فإن لمت قلبي قال لي العين أبصرت … وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب
فعيني
وقلبي قد تقاسمتما دمي … فيا رب كن عونا على العين والقلب قالت هذه ولما
سقيت القلب ماء المحبة بكؤوسك أوقدت عليه نار الشوق فارتفع إليك البخار
فتقاطر منك فشرقت بشربه أولا وشرقت بحر ناره ثانيا قال خذي بيدي ثم اكشفي
الثوب فانظري … ضنى جسدي لكنني أتستر
وليس الذي يجري من العين ماؤها … ولكنها روح تذوب فتقطر
قالت
والحاكم بينكما الذي يحكم بين الروح والجسد إذا اختصما بين يديه فإن في
الأثر المشهور لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلائق حتى تختصم الروح
والجسد فيقول الجسد للروح أنت الذي حركتني وأمرتني وصرفتني وإلا فأنا لم
أكن أتحرك ولا أفعل بدونك فتقول الروح له وأنت ألذي أكلت وشربت وباشرت
وتنعمت فأنت الذي تستحق العقوبة فيرسل الله سبحانه إليهما ملكا يحكم بينهما
فيقول مثلكما مثل مقعد بصير وأعمى يمشي دخلا بستانا فقال المقعد للأعمى
أنا أرى ما فيه من الثمار ولكن لا أستطيع القيام وقال الأعمى أنا أستطيع
القيام ولكن لا أبصر شيئا فقال له المقعد تعال فاحملني فأنت تمشي وأنا
أتناول فعلى من تكون العقوبة فيقول عليهما قال فكذلك أنتما وبالله التوفيق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ